نظرية الاشراط الكلاسيكي لبافلوف

ما الذي يجعل الناس على ما هم عليه؟ لو توجهنا بهذا السؤال إلى عالم في العلوم الاجتماعية فلربما أجاب بقوله إن الناس كذلك لانهم نتاج الوراثة وما طرأ ويطرأ على هذه الوراثة من تغييرات منذ ولادتهما حتى يومهم الذي يحبونه. ومعظم ما يحدث لك أيها القارئ منذ ولادتك ينطوي على تفاعل معقد مع البيئة التي تعيش فيها وهو التفاعل الذي يصنف في باب عام من أبواب المعرفة ويعرف باسم «التعلم.»

فالسلوك الإنساني و معظمه ناجما عن التعلم ولكي ندرك إلى أي مدى يصل اثر التعلم على حياتنا تصور أنك استيقظت من نومك ذات صباح ووجدت أن كل ما تعلمته سابقا قد زال من الوجود وانك رجعت القهقرى إلى ما يسميه جون لوك (John Locke) بالصفحة البيضاء أو اللوحة الملساء (Tabula rasia) ولنفرض أن بجانبك مذياعا به ساعة منبه

تعطيك إشارة لإيقاظك وأن المذياع بدأ يعمل واخذ المذيع يقرأ نشرة الأخبار. عندها صحيح أنك تكون قد استيقظت من نومك ولكنك تعجز عن فهم ما يتناهى إلى مسامعك من أصوات. والفهم يتطلب تجربة لغوية سابقة واختزانا في الذاكرة لوحدات الوسيط اللغوي التي تساعدك على فهم تلك الأصوات. وزيادة على ذلك فالسلوك المتمثل في النهوض من الفراش وملامسة مفتاح المذياع سلوك غير معروف لديك. فإذا نهضت فستكون قادرة على المشي

فالمشي كما يعتقد عملية نمو في الغالب وان كان قد ينطوي أيضا على المحاكاة بالنسبة للإنسان ولكنك ستجد مشقة في التحرك هنا وهناك لأن بعض جوانب الإدراك جوانب متعلمة. ثم تتوقف قليلا کي تمعن النظر في

صورة لك ولكنك ستعجز عن إدراك كنه الصورة تلك، فهي ترسم شكلا الجسم ذي ثلاثة أبعاد على سطح ذي بعدين وأنت لم تتعلم بعد كيف «تری» الصورة في أبعادها الثلاثة، ولن ترتدي ملابسك لأن ذلك عادة نتعلمها من واقعنا الحضاري، وستكتشف انك لا تستطيع التحكم في إفراغ المثانة أو الأمعاء لأن الإنسان لا بد أن يتدرب على عادات الإخراج، مع ذلك. وفي حالتك تلك فأنت أشعت الشعر كذلك ولكنك لا تهتم البنة لأن الاعتناء الجيد بالشعر أمر نتعلمه والمهارات الروتينية في معظمها أوجه للسلوك التعلمي، |

ومن المؤكد أن الكثير من مكوناتك أنت، تعزى إلى التعلم، وقد تعلمت الكثير من الأعمال المعقدة والمنوعة، من ربط حذائك إلى قيادة السيارة . ومن خلال عملية التعلم هذه اكتسبت أهدافا وقيما وكذلك أسلوب حياتك الخاصة، كأن تكون متوتر الأعصاب تارة ومسترخيا تارة أخرى.

ومن الصعوبة بمكان أن نأتي على ذكر موضوع التعلم وعلى الخصوص ما يتعلق بالانعكاس الشرطي دون أن تتذكر العالم النفسي الروسي الشهير ايفان بتروفيتش بافلوف (1949-1936). والاشراط البافلوفي (Pavlovian conditioning) يعرف أيضا بالاشراط الاستجابي (respondent conditioning) والاشراط الكلاسيكي (classical conditioning). والجدير بالذكر أن هذه الأسماء الثلاثة هي في الأساس مصطلحات مترادفة. وإمعانا في تعقيد المسميات استخدم باروس اف سکتر مصطلح نموذج التعلم الاستجابي القائم على وجود المثير) (Type S Learning) للدلالة على شكل التعلم الذي

ومع أن بافلوف نال جائزة نوبل عام 1904 لأبحاثه على الجهاز الهضمي إلا أنه اشتهر اكثر ما يكون لتجاربه على الكلاب فيما بعد، وفي هذه التجارب كان يقوم بدق جرس ارتبط مسبقا بمسحوق اللحم وتمكن في نهاية الأمر من أشراط الكلاب بحيث يسيل لعابها عندما تسمع دق الجرس وفي غياب مسحوق اللحم) ، والقليل منا يدرك كيف يتم مثل هذا التعلم في حياتنا اليومية. ولكن لو فكرت في طعامك المفضل وركزت هذا التفكير على تلك الجوانب التي تحبها من هذا الطعام أكثر من غيرها، ولو تصورت أنك تأكل الآن اللحم المحبب لديك وأنه لذيذ المذاق بمثل ما عرفت من لذته المعهودة لديك. لو فكرت على هذه الصورة فهناك احتمال كبير في أن يكون العابك قد بدأ يسيل حتى قبل أن تنتهي من قراءة الجملة السابقة وعلى الخصوص لو كنت جائعا ومع ذلك فأنت لما تذق لقمة واحدة من ذلك الطعام المفضل، إذن لا بد أن يكون لعابك قد سال اعتمادا على تجاربك السابقة مع طعامك المفضل وان التفكير في هذا الطعام قد أحدث أثرا (إفراز اللعاب) يشبه إلى حد كبير تلك الاستجابة اللعابية التي تحدث عند وجود الطعام الفعلي،

وعادة يقسم نمط التعلم المختبري (أو الذي تجرى عليه التجارب في المختبرات) إلى قسمين اثنين: نمط التعلم الكلاسيكي (وهو موضوع هذا الفصل من الكتاب) ونمط التعلم الإجرائي أو التعلم الوسيلى. وهنا لا بد من إيضاح هذا الأمر، فالتعلم الكلاسيكي، وهو النمط الذي قام بافلوف بدراسته، يعني أن الكائن الحي، أي كائن حي، لديه رد فعل طبيعي غير مشروط لمثير ما. فمثلا عندما يرى الكلب الجائع الطعام (أو المثير غير المشروط مغش) فانه يبدأ بإفراز لعابه (أو الاستجابة غير الشرطية مغ ش) فإذا ما ربطنا بين رنين الجرس وتقديم الطعام فان هذا الرنين وحده بدون تقديم الطعام (أو المثير الشرطي م ش) بعد مضي بعض الوقت، يؤدی إلى إفراز اللعاب (أو الاستجابة الشرطية س ش وباختصار فان الكلب قد تعلم الاستجابة إلى مثير لا علاقة له في السابق بالطعام (أو الجرس) وكأن هذا المثير هو المثير الطبيعي (أو الطعام) المسيل للعاب.

ومن ناحية أخرى، فان التعلم الوسيلى أو الإجرائي يعمل على النحو

أضف تعليق