لقد غرق هيجل في الميتافيزيقيا وكاد أن يغرقنا معه ، وإذا تساءل أحدنا لماذا أضعنا هذا الوقت والجهد في تفسير للتاريخ يتلخص في عبارة واحدة : كل شيء مباح لمن يمثلون المرحلة النهائية لتطور الروح المطلق أو تحقق العقل في العالم، أي للدولة البروسية وزبائنها! .
وإذا ما تساءلنا عن قائل هذا، فإنهم يقدمون لنا بكل إجلال المفكر الرسمي للدولة، وعلينا بعد ذلك أن نصدق أو لا تصدق .
غير أن الأمر لو توقف عند هذا الفيلسوف المثالي المغرق في المثالية لما كان لجهدنا أي مبرر، ولكننا نصادفه وقد غير من جلده، وتغلف بعبارات مستعارة من علوم الطبيعة متسترة هذه المرة ليس تحت ستار العقل المطلق، وصيرورته الضرورية في التاريخ، ولكن تحت ستار «المادية وحتميتها التاريخية لحل صراع الطبقات محل جدل العبد والسيد عند هيجل. وإذا أغضضنا النظر عن هذا الاختلاف في التعابير، أو أننا تتبعناها حتى كشفنا عنها اللثام وجدناها في نهاية المطاف تقود بالضبط إلى ما تقود إليه الهيجلية الإنسان فردا أو شعوبة ينفذ ما لا يعي» مما يجعل بيردياف مصيبة حين يؤكد أن «المادية ليست على وإنما عقيدة کالعقيدة الدينية foi).
إن أول عبارة يفتتح بها مارکس وانجلز بیانها تذهب إلى أن تاريخ كل المجتمعات حتى يومنا هذا ليس إلا صراع الطبقات. وفي خطاب من ماركس إلى ج. ويد مایر 5 مارس 1852 يوجز الخطوط الرئيسية لما أسماه مادية تاريخية:
- إن وجود الطبقات إنما يرتبط بمراحل تاريخية بعينها التطور أدوات الإنتاج.
- إن الصراع الطبقي يقود بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا.
- إن هذه الدكاتورية ذاتها تشكل الانتقال إلى إلغاء كل الطبقات.
وهذا يعني أن مصدر حركة التاريخ هو صراع الطبقات وهذا الصراع حول أدوات الإنتاج يتم وفقا لعوامل مادية اقتصادية، إذ إنه من ناحية يتحدد بنمط درجة تطور أدوات الإنتاج كا ينشأ بسبب حيازة أدوات الإنتاج، کہا أن تطور أدوات الإنتاج يحدد مراحل التاريخ، هذه المراحل التي تتولى حتمية أي تصل إلى هدف التاريخ وهو سيطرة طبقة البروليتاريا على كل المجتمع، ومن ثم يتحقق تلقائية إلغاء الطبقات وإذا ما تساءلنا كيف تقود سيطرة طبقة إلى إلغاء الطبقات، فإننا لا نجد إجابة واضحة غير القول بأن التاريخ قد وقع اختياره على طبقة البروليتاريا لكي يلغي الطبقات وهنا كا في نقاط أخرى تنكشف العقلانية المفرطة في لاعقلانية مفرطة ..|إذ ينسب إلى التاريخ ما لا ينسب إلا للإنسان وعلى العموم، لكي نفهم حقيقة مثل هذا المذهب في تفسير التاريخ بموضوعية، علينا أن نتتبع كيف توصل إلى مثل هذا التأكيد، ولتحقق من صحة دعواه أو بطلانها، ولذلك سنبدأ بأن نبعد قليلا عن مناقشة ما طرحناه موجزة النتفحص بقدر من التفصيل أسس ما يطلق عليه المادية التاريخية .إن صراع الطبقات عند ماركس ليس إلا نتيجة أو ظاهرة لعامل آخر وهو تطور أدوات الإنتاج فالتاريخ بالنسبة له قد بدأ مع اختراع أول أداة إنتاج، وهذا يعني أن الظواهر الاجتماعية (صراع الطبقات) انعكاس لظروف مادية (أدوات الإنتاج)(!)، فأنجلز تأكيدا لهذا يتساءل بدهشة «هل من حاجة لنفاذ بصيرة لكي يدرك المرء أن تغيير معاش البشر وعلاقاتهم الاجتماعية ووجودهم الاجتماعي يتتبع تغيير في مفاهيمهم وأفكارهم وباختصار في وعيهم.
إن كوننا لا نستطيع فهم وعي الناس وأفكارهم إلا من خلال وجودهم وممارساتهم «فهذا شيء مسلم به ولا يحتاج الشبح يخرج من القبر ليذكرنا به، إلا أنه لا يعني أن الأفكار والوعي ليس إلا انعکاس هذه التي يتهم بها قارودي لينين إن مفهوم الانعكاس الذي أدخله لينين في نظرية المعرفة قد ساهم في إفساد الماركسية » موجودة في الواقع في صميم التفسير الماركسي، ولم يكن للينين إلا فضل إبرازها.. .
وستالين لا يقبل النقاش في أن «الحياة الاجتماعية الشروط الخارجية ووضع الإنسان هي التي تتغير أولا ثم يتغير بالتالي وعي الإنسان». وهذا يعني بمصطلح عالم التفسير، وكما حدده مارکس نفسه «أولوية المادة فماذا يعني ماركس بالمادة ؟». .
يعتقد مارکس أن اختلاف ماديته جذري عن المادية الفرنسية في القرن الثامن عشر، دیدرو هلفتيوس – دولباخ… الخ، ولا يعترف لهؤلاء إلا ما أدت إليه فلسفتهم عملية في نقدها للاقطاع والاستبداد والنتائج الأخلاقية والسياسية التي ترتبت على هذا النقد.
ولكنه يرفض تصورهم للمادة وينعته بالمادية الساذجة باعتبار أن تصوراتهم للمادة فقيرة وليست إلا شبح مجرد تسيطر عليه قوانين ميكانيكية (3)، ومع ذلك فإن مارکس بزوغ دائما حينما يتعلق الأمر بتحديد معنی دقیق للمادة ولا يقدم تعريفه لها إلا بشکل بیان اختلافه عن الآخرين ومحاولة انجلز إعطاء تعريف لها حين ذهب إلى أن «الحركة هي نمط وجود المادة وطرازها زادت المسألة تعقيدا.
إلا أن الثابت مع كل هذا، أن مارکس وانجلز ينطلقان في كل مذهبهم من أن العالم المادي هو الحقيقة الوحيدة وأن الروح المفكر ليسا إلا نتاج أداة هي المخ. فها نطلق عليه نشاطات روحية ليست من وجهة النظر هذه إلا وظيفة للمخ ، فالمخ وظيفته التفكير كما أن المعدة وظيفتها الهضم. وهذه المشكلة في حقيقة الأمر قديمة قدم الفلسفة، ونعني بها ثنائية المادة والفكر أو الروح وأولوية أي منهما على الآخر.
وقد تحددت حتى الآن فلسفة من أخرى بانحيازها إما نحو الفكر وأولويته على المادة – هيجل أبلغ مثال – وإما بانحيازها إلى المادة – مارکس مثل هذا – ومع ذلك، وإن كان هنا ليس المجال لمناقشة مثل هذا الموضوع فإن هذه الثنائية خاطئة أساسا.
وقد وقع مارکس وانجلز في دوامة الفلسفة التقليدية وانغمسا في هذا الوضع الزائف لقضية أصلا زائفة شغلت أذهان الفلاسفة ردحا من الزمن، وانشقت على أساسها المدارس والاتجاهات، وهم يشبهون في هذا تلك الحكاية التي تروى عن شخصين ينظران إلى نفس التمثال كل من جهة، فيدعي أحدهما أنه برونز، ويدعى الآخر أنه فضة، ويتقاتلان في محاولة فرض كل لوجهة نظره على الآخر. وهكذا انحاز مارکس وانجلز إلى جانب المادة وردا الفكر إلى العالم وعکس الفلسفة الألمانية التي تنزل من السماء إلى الأرض فإننا نصعد من الأرض إلى السماء»، القول يبدو وكأنه تعليق على تلك اللوحة التي تمثل افلاطون مشيرة إلى السماء وأرسطو مشيرة إلى الأرض.
وهذا يعني لا الانطلاق من الوعي أو الفكر لتفسير حياة الإنسان ووجوده کا تصنع الفلسفة المثالية من أفلاطون إلى هيجل وإنما الانطلاق من وجود الإنسان الواقعي وممارساته الفعلية لكي نفهم وعيه ووجوده، فالوعي بهذا الشكل هو وعي بما يوجد وبما نقوم بعمله، مشکل بها والوعي لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير الموجود الواعي» وهذا الانحياز للتفسير المادي أدى ماركس إلى التأكيد على أنه ليس وعي الناس الذي يحدد وجودهم ، بالعكس وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ) وفي هذا القول إشارة واضحة إلى علاقة سببية :
الوجود الاجتماعي أي العمل، البيئة، نمط الملكية ، درجة تطور أدوات الإنتاج تحدد وعي الناس، فالوعي إذن معلول للشروط الاجتماعية، فالوعي بالنسبة لماركس ينبغي أن يفسر ابتداء من تناقضات الحياة المادية من النزاع القائم بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج» .
ولكي يجد تبريرة للتناقض والنزاع القائم بين قوی الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وبما أنه قد استغنى عن الإنسان، فإنه اضطر إلى إرغام الطبيعة أو المادة أن تكون جدلية، وأن يتبنى فكرة التولد التلقائي ليس فقط التناقضات الحياة المادية ، وللنزاع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بل أيضا لتفسير وجود الإنسان والحيوان .
ولكن هل تأكيد وجود الأشياء ووجود الإنسان الواقعي يقتضي ضرورة إلغاء فعالية الفكر؟! هل الأمر يقتضي إما المثالية المطلقة أو المادية المطلقة؟ هل نحن في موقف خیار کا يضعنا قارودي، في كتابه النظرية المادية والمعرفة، بين روح أم مادة ؟! إن المثاليين وكذلك الماديين لم يوضحوا لنا التناقض غير القابل للحل بينها، ولم يثبتوا لنا أنهما – أي المادة والروح – لا يصدقان معأ ولا يرتفعان معا ! لو كان مارکس وانجلز حيان لربما أجابانا آسفين قياسا على اعتذارها عن المبالغة المفرطة في أهمية العامل الاقتصادي : قائلين لقد بالغنا في تأكيد وجود الأشياء لأن هناك من بالغ في نفيها. وتكون فلسفتها سلسلة من ردود الأفعال. إلا أننا لا يمكن أن نقبل مثل هذا الاعتذار، وهما يواصلان التأكيد في كل فقرة وفي كل مؤلف على أننا «يجب أن ندرك أفكارنا باعتبارها انعكاسات للأشياء لا أن نعتبر الأشياء الحقيقية انعكاسات للفكرة ويحاول انجلز تقريب هذه المادية إلى الأذهان بربطها بالعلوم الطبيعية وتأثير هذه في تلك ، وهذا التأثير من العلوم الطبيعية في المادية (الماركسية) يجعله انجلز محور الاختلاف عن المادية الساذجة والتي كانت تعكس ما وصلت إليه العلوم الطبيعية في القرن الثامن عشر، وهو بالتأكيد مستوى ساذج بالمقارنة بما وصلت إليه اليوم إلا أن هذا الربط بين المادية والعلوم الطبيعية يقتضي بعض الملاحظات :
- إن مادية القرن الثامن عشر ساذجة لأنها تعكس علومة طبيعية آنذاك.
- إن المادية الحديثة تفوق تلك لأنها تعكس علومة جد متقدمة ولكن ما هي العلاقة الضرورية بين العلوم الطبيعية والمادية الفلسفية؟ هل الفلسفة مجرد انعكاس لما وصلت إليه العلوم؟.
- فإذا سلمنا بهذا جدلا، إلا أنه من ناحية أخرى لا أحد في العلوم الطبيعية يجهل أن العلوم الطبيعية لم تقل كلمتها النهائية بعد، وربما لن تقولها على الأقل في مستقبل منظور، وإذا ادعت هذا امتنعت عن كونها علومة، ومعنى هذا أنه مثلا صارت مادية القرن الثامن عشر ساذجة الآن نظرة للتطور الهائل في العلوم الطبيعية، فإن المادية الحديثة (الماركسية) ليست الصورة النهائية للمادية أو بالأخرى التفسير الوجود، وإذا ادعی بعض المتمرکسين غير هذا فإنه يجب أن يقبل أنها لیست عليا، كما أن تأثرها بما وصلت إليه العلوم الطبيعية يناقض محاولتها فرض المنهج الجدلي على العلوم الطبيعية، هذا المنهج الذي لم يكشف عنه أي علم طبيعي حتى الآن.
إلا أن مارکس وانجلز يتصرفان وكان العلوم الطبيعية قد قالت لها على انفراد كلمتها الأخيرة، وتركت لها أمر استنتاج ما يريدان، «ما يصح على الطبيعة منظورة إليها كعملية تطور تاريخي يصح أيضا على تاريخ المجتمع في جميع فروعه بل إن مع بعض الزمن إذا صدقت استنتاجاتها سيشمل العلم الطبيعي علم الإنسان» وهذا يعني شمول قوانين العلم الطبيعي لتنطبق على حياة الإنسان وعلى المجتمع. ولم يوقفا عند هذا الحد، بل تطرفا حتى اعتبرا أن أعضاء الإنسان نفسها قد تطورت بسبب العمل إن اليد ليست عضو العمل فقط إنها أيضا نتاج العمل» ولا يخفي هنا تأثير – لا العلوم الطبيعية، بل الداروينية – ، فالعمل بالنسبة الأنجلز هو الذي حول القرد إلى إنسان، ولكنه أغفل أن يشرح لنا كيف أن القرد ما قبل العمل قد أخذ يعمل ولماذا؟ ! ثم لم لم تتحول بقية القرود إلى إنسان وبقيت قرود؟ بالطبع ليس أمامه من مفر، إذا ما حاول الإجابة ، إلا القول بنوع من القرود ليست ككل القرود، قرود لديها الدافع إلى العمل والقدرة على القيام به.
ولكي يفسر مارکس وانجلز التغيرات التي طرأت وتطرأ على حياة الإنسان لم يجدا عناء في إرجاعها إلى التغيرات في الظروف التي تحكم وجوده المادي «هل نحتاج لتأمل عميق – يقولان في البيان الشيوعي – لكي ندرك أن أفكار الإنسان وآراءه ومفهومه وباختصار وعيه يتغير مع كل تغير في ظروف وجوده المادي وحياته الاجتماعية . إن الوعي إذن معلول للشروط المادية والتي هي علة، ولكن بقي أن نفسر إذن لماذا تتغير الشروط الاجتماعية وما علة تغيرها؟ وهنا نجد إجابتها تعبر عن العجز أكثر مما تعبر عن محاولة للتفسير «إن هذا التغيير يتم تلقائيا وفق قوانين الطبيعة أو قوانين الجدل»، وفي هذه الحالة، فإن الخلاصة الواضحة بذاتها تصبح سلبية الإنسان وتبعيته للشروط المادية الوجوده، دون أن يكون مؤثرة، ولا سبيل هنا للتحجج بالتأثير المتبادل فهذه الحجة ليست في الواقع حجة إلا للتخلص من المشكل.. فالعلة لوجود «أه مثلا لن تكون معلولة «أه حتى لو أصبح هذا علة، وببسيط العبارة فإن الطفل قد يكون أبا لكنه لن يكونه لأبيه ، إن العلة في تغير وعي الناس لن تكون معلولة لوعي الناس حتى لو أصبح هذا علة. غير أنها يبدوان قد نسيا هذه التأكيدات على الظروف المادية، فانطلقا مهاجمان الخلاصة التي يقود إليها موقفها ضرورة، ويقعان في تناقض صارخ، ففي كتابها الأيديولوجية الألمانية يقفان موقفة مخالفة وإن المذهب المادي القائل إن البشر نتاج الظروف والتربية، وبالتالي إن البشر المتغيرين نتاج ظروف أخرى وتربية أخرى متغيرة ينسى أن البشر هم الذين يغيرون الظروف، وأنه من الأمور الأساسية تربية المربي نفسه، ولذا ينتهي هذا المذهب بالضرورة إلى تقسيم المجتمع إلى جزئين أحدهما يعلو على المجتمع » ، وهذا فعلا ما حدث بعد ذلك في المجتمعات التي أخذت بالماركسية.
وحين أبعد الإنسان عن التأثير في حياته وصنع ظروفه المعيشية، اضطر مارکس وانجلز إلى إسناد هذه المهمة – مهمة تغير الظروف – إلى قوانين الجدل التي أرغم والطبيعة على احتوائها، وهذه القوانين هي:
- التغير من الكم إلى الكيف: ويعني هذا أن التراكم الكمي ينتج عنه کیف جديد، ولكن يحق لنا أن نسال هل هناك كم بدون كيف؟ إننا عندما نغلي الماء وتصبح الحرارة 90 درجة ليتحول الماء إلى بخار لا من كم إلى کیف وإنما من کم وكيف معين إلى كم وكيف آخر
- . 2 – صراع الأضداد: إن الأضداد يقتضي كل منهما الآخر ويستبعده، غير أننا إذا سلمنا بهذا سنضطر إلى تبني تفسير «مانوي، صوفي حين ننظر إلى الطبيعة على أنها صراع أضداد، فهذه النظرة تذكرنا بصراع آلهة اليونان أكثر مما تذكرنا بتفسير علمي، إن صراع الأضداد لا يتم في الطبيعة ولكن في المجتمع، وبالتالي بالنسبة للإنسان، إن صراع الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم ليس له من معنى إلا في حياة الإنسان أي في المجتمع، فهذه تصف علاقات يرتبط بها الناس في المجتمع، وليس قوى طبيعية متصارعة عمياء.
- نفي النفي: إن نفي النفي يعني الإيجاب، وفحواه أن كل مرحلة تنفي سابقتها مع استيعابها لها، وهذا يشير إلى نظرية المراحل التي سنتطرق لها، وفقا لقانون نفي النفي هذا، فإن التاريخ تقدم مستمر، أي أن حالة | اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل بالضرورة من اليوم، ولكن حين نراجع التاريخ الحقيقي لا المتخيل لا نجد هذا صادقا أبدأ ودائية إلا إذا تبنينا نظرة كلية ، تأخذ مسيرة التاريخ على أنها كل واحد، وفي هذه يظهر تأثير هيجل واضحا..
إن العلاقة بين الإنسان وظروفه ينبغي أن تكون، أو هي في الواقع جدلية ، إذ لا يمكن أن ننكر من ناحية مدى ما تمارسه الشروط الاجتماعية .. العمل .. الخ، من تأثير على وعي الناس وأفكارهم، لكنها لا تحدد وعي الإنسان وتفكيره ، فهذا أيضا يؤثر ويشكل الشروط الاجتماعية ، ولكن مارکس منذ صباه يعتنق تفكيرا حتمية قدرية، فهو يؤكد في موضوع إنشائي منذ كان تلميذة بأن الإنسان لا يستطيع اختیار مهنته بحرية، وأنه يولد في شروط تحدد سلفا مهنته وتصوره للعالم» فهو قد جعل من الواقع مبدأ، ومن نمط الحياة الرأسمالية نموذجا في الوقت الذي يدعي فيه رفضها. إلا أن حياة صديقه – وحياة مارکس نفسه – تكذب هذه القدرية الساذجة ، فإن والد انجلز كان يريد أن يجعل منه تاجرة، ولم يدخر جهدا في سبيل ذلك، لكن انجلز لم يصبح تاجرة رغم كل الظروف .
وحين نذهب إلى العلاقة الجدلية بين الظروف بأوسع معانيها والإنسان، فإن هذا يحتاج إلى توضيح لكي لا يحدث أي التباس، فالظروف التي تؤثر في الإنسان وفي وعيه وتفكيره ومط حياته لا ننظر إليها في ذاتها، إن
الشروط الاجتماعية لا توجد في الواقع مستقلة عن وعي الناس وتفكيرهم بشريطة أن نفهم أن وعي الناس وتفكيرهم ليس قصيدة تضج عاطفة هوجاء أو أحلام مراهق أو هذیان محموم، إن أفكار الناس ووعيهم إشارات إلى الممارسة الواقعية تترجم في وقائع عملية، هذه الوقائع العملية التي تؤثر في البعض وتشكل أحيانا حياتهم وفكرهم ليست كذلك باعتبارها معطيات مادية، وإنما باعتبارها أفعال وممارسات آخرين كما أن أفعال الأولين تؤثر وتشگل وعي الأخرين حين تترجم کوقائع في المجتمع، فالشروط المادية السيئة التي يعيش فيها العمال وتؤثر في وعيهم لیست في الواقع إلا أفعال وممارسات الرأسماليين، إن التأثر والتأثير ليس بين الشروط الاجتماعية أو الظروف عمومأ والإنسان، وإنما بين إنسان وإنسان في العلاقات الاجتماعية .
ومن ناحية أخرى، قد يعترض علينا بأن الشروط التي يصنعها نفس الإنسان قد تؤثر فيه وتكيف سلوكه، وهذا صحيح ولكنه لا يناقض ما سبق الإشارة إليه، فالتأثير والتأثر ليس بين الإنسان والشروط الاجتماعية في هذه الحالة إلا باعتبار هذه Anti diale Ctique أو ضد الجدل …
وبمعنى آخر إنها أفعال الإنسان، كما قد تكون أفعال آخرين معه، تحولت إلى واقع لا يستطيع الإنسان أن يتعامى عنه .. فالذي يحفر حفرة مضطر أن يأخذ هذه الحفرة التي من صنع يديه بعين الاعتبار لكي لا يقع فيها، فالحفرة التي صنعها ترتد على سلوكه وتحدد له طريقة معينة لكي لا يقع فيها، فيجب إذن ألا ننسى صانع الحفرة وندعي أن الحفرة تحدد سلوك الإنسان کا تذهب الماركسية !.
إن الشروط الاجتماعية تستمد وجودها وتأثيرها من أفعال الناس وأفكارهم ورغباتهم والأهداف التي يضعونها الحياتهم، ولهذا فإن العلاقة هي دائما في المجتمع بين إنسان وإنسان متوسطة بالشروط الاجتماعية وأحيانا المادية أي أنها علاقة اجتماعية، كما أن الشروط المادية في المجتمع ليست إلا أفعال وممارسات الناس وقد تحولت عبر المواد إلى واقع محسوس ينبغي أخذه بعين الاعتبار.
إن فكر الإنسان ووعيه يؤثران على وجوده وعلى ممارساته، فهذه ليست إلا تحقيق الذاك. ووجود الإنسان وممارساته ينعكسان ويؤثران على وعيه وتفكيره وهذه الجدلية عكس تماما ما يريده مارکس، إذ لا تسير في اتجاه واحدة وليست جدلية طبيعية، فالطبيعة لا تعرف الجدل فالبخار ليس مركبة من البرودة والحرارة ولكنه حالة جديدة وحين أرغم مارکس الطبيعة على أن تكون جدلية لم ينجح إلا في تأسيس الجدل على ميتافيزيقا مادية وانجلز يعترف بأن «العلماء الذين تعلموا أن يفكروا جدلية هم قلة ومتباعدون لكن هذا بكل تأكيد لم يمنع العلم من التقدم بشكل مذهل، مما يدل على لا ضرورة التفكير الجدلي في العلوم الطبيعية، فالفيزياء لا تختلف في بلد يرفع شعار الماركسية عنها في بلد لا يعبأ بها. إن الجدل إنساني بؤرته الإنسان، إذ لا يمكن أن تقوم علاقة جدلية إلا بين الناس فالوسط الوحيد الذي يمكن فيه تبادل التأثير والتأثر هو الوسط الاجتماعي.
والحقيقة بشواهد من مؤلفات مارکس وانجلز قبل غيرهما من الاتباع – تظهر أنهما متذبذبان في هذه النقطة – كما في غيرها . فها تارة يؤكدان أن التاريخ الإنساني والتاريخ الطبيعي يؤثران في بعضها البعض» بمعنى أن الإنسان يؤثر في الطبيعة بالقدر الذي فيه الطبيعة تؤثر في الإنسان. أو كما يذهب انجلز «إن الذين تصدر عنهم الأفعال في تاريخ المجتمع هم أناس مزودون بالوعي يتصرفون بتفكير ولهم أهداف معنية يسعون إليها، وما من شيء يحدث دون خطة واعية وبدون غاية مبتغاة» وفي مكان آخر يحدد الاختلاف بين مسار الطبيعة وتاريخ الإنسان ذاهبة إلى أن في الطبيعة ليس هناك سوى قوة عمياء غير واعية تؤثر على بعضها البعض، أما تاریخ المجتمع الإنساني فإن كل الفاعلين فيه مزودون بالوعي، يتصرفون عن قصد، ويسعون نحو أهداف محددة» ولكنها من ناحية أخرى صريحان في جعل الإنسان وتفكيره مجرد انعکاس لوضعه المادي . إن البشرية لم تطرح أمامها من مهام إلا ما تستطيع أن تحله الآن، المهمة نفسها لا تطرح إلا حين توجد بالفعل الشروط المادية لحلها ) وهذا يعني أن البشرية لم تطرح إلا المشكلات التي تستطيع حلها، کیا أن وعي الإنسان لا يتم إلا حين تتوفر الشروط المادية للحل، فالطاولة لا تظهر فكرتها ولا الرغبة في صنعها إلا حين يتوفر أمام الإنسان المطرقة والمسامير وقطع الخشب اللازمة !! وبناء على هذا فإن الإنسانية لم تطرح مشاكل لم تستطع حلها، وإن كل المشكلات التي طرحتها وجدت لها الحل، وكل هذين التأكيدين يبدوان ساذجين تماما حين نطالع تاريخ البشرية وما طرحته من مشاكل لم تجد لها بعد حلا..