مقدمة عن تطور الزمن

عندما ننطلق من البداية، نلاحظ خاصية غريبة لطبيعة الزمن؛ خاصية أساسية في عبورنا إلى القرن الحادي والعشرين. تبدأ قصتنا منذ 15 مليار سنة، لم تكن هناك حياة واعية تدرك قيمة ميلاد كوننا في ذلك الوقت، لكننا نعرف قيمته الآن، وقد حدث ذلك بأثر رجعي، بالنظر إلى الماضي – من أحد منظورات ميكانيكا الكم – يمكننا القول بأن الأكوان التي فشلت في تطوير حياة واعية تدرك وجودها لم توجد في الأساس).

لم تبرد حرارة الكون إلا بعد ۱۰-۳؛ (جزء من عشرة من مليون تریلیون تریلیون تريليون ثانية) من ميلاده بما يكفي (إلى 100 مليون تريليون تريليون درجة) لظهور قوة واضحة هي الجاذبية.

ولم يحدث شيء يذكر في الثواني ال۱۰-۲۶ التالية (هذا أيضا جزء بالغ الصغر من الثانية، لكنه أطول مليار مرة من ۳۱۰)، وعندئذ سمحت حرارة الكون الذي ازداد برودة في ذلك الحين كانت درجة الحرارة مليار ملیار مليار درجة فقط) بظهور المادة على هيئة إلكترونات وكواركات، ومن أجل المحافظة على التوازن ظهرت أيضا المادة المضادة. كان زمنا زاخرا بالأحداث، إذ سرعان ما نشأت قوى جديدة، فكان لدينا حينئذ ثلاث قوی: الجاذبية، القوة النووية الشديدة، والقوة الكهروضعيفة.

بعد ۱۰ ثانية أخرى (جزء من عشرة من مليار ثانية)، انقسمت القوة الكهروضعيفة إلى القوى الكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة التي نعرفها الآن جيدا.

تعقدت الأمور بعد ۱۰ ثانية مرة أخرى (عشرة من مليون من الثانية). ومع هبوط درجة حرارة الآن إلى تريليون درجة معتدلة نسبيا، تتجمع الكواركات لتكوين بروتونات ونيوترونات. وتفعل مضادات الكواركات نفس الشيء بتكوين مضادات البروتونات.

بطريقة ما تصل جسيمات المادة إلى نقطة تحول ضئيل. والكيفية التي حدث بها ذلك غير واضحة تماما، وحتى ذلك الوقت كان كل شيء يبدو متسقا تماما، ولكن لو أن كل شيء ظل متوازنا بصورة متعادلة، لأصبح الكون على الأرجح مثيرا للضجر، وما كانت الحياة لتنشأ أبدا، وبذلك نستطيع أن نستنتج أن الكون لم يكن ليوجد بادئ ذي بدء في مقابل كل 10 مليارات مضاد بروتون، يحتوي الكون على 10 مليارات وواحد بروتون، وقد تصادمت البروتونات ومضادات البروتونات محدثة ظاهرة أخرى مهمة: الضوء (الفوتونات)، وهكذا فنيت المادة المضادة نهائيا تقريبا، لتصبح المادة هي السائدة، (يوضح لك ذلك خطر السماح لمنافس بالتفوق ولو بنسبة ضئيلة).

وبالطبع لو كان الفوز من نصيب المادة المضادة، لأطلقت عليها سلالتها اسم المادة، وأطلقت على المادة اسم المادة المضادة، ولعدنا إلى نقطة البداية (ربما يكون هذا ما حدث).

بعد ثانية أخرى (الثانية زمن طويل جدا مقارنة ببعض الفصول المبكرة في قصة الكون، فلاحظ كيف تزداد الفترات الزمنية طولا بمعدل أسي) حذت الإلكترونات ومضادات الإلكترونات التي يطلق عليها بوزيترونات) حذو البروتونات ومضادات البروتونات وأبادت بعضها بعضا، تاركة في الأغلب الإلكترونات.

بعد دقيقة أخرى بدأت النيوترونات والبروتونات في الاندماج في نوي أثقل، مثل الهليوم والليثيوم والأنواع الثقيلة من الهيدروجين، وكانت درجة الحرارة حينئذ مليار درجة فقط.

بعد ۳۰۰ ألف سنة (الأمور الآن تتباطأ بسرعة)، وبعد أن أصبح متوسط درجة حرارة ۳۰۰۰ درجة فقط، وجدت الذرات الأولى عنفتا سيطرت النوى على الإلكترونات القريبة منها.

بعد مليار سنة كونت هذه الذرات سحبا ضخمة تحركت تدريجيا في دوامة مكونة المجرات.

بعد ملياري سنة أخرى ازداد اندماج المادة داخل المجرات لتتكون نجوم منفصلة، وكان للكثير منها مجموعاتها الشمسية.

بعد ذلك بثلاثة مليارات سنة، ولد كوكب عادي يدور حول نجم عادي يقع في ذراع مجرة عادية، وهو ما نسميه كوكب الأرض.

والآن قبل أن نتقدم أكثر، دعنا نشر إلى سمة تسترعي الانتباه في مرور الزمن، فقد تحركت الأحداث بسرعة في بداية عمر الكون، فكان لدينا ثلاثة تحولات كبرى في أول جزء من مليار من الثانية فقط، وبعد ذلك استغرقت الأحداث ذات الأهمية الكونية مليارات السنوات، وطبيعة الزمن أنه يتحرك بطريقة أسية، إما بتزايد سرعته بمعدل هندسي أو – كما هو الأمر في تاريخ كوننا- بتباطؤ سرعته بمعدل هندسي، وتبدو حركة الزمن خطية فقط خلال تلك الحقب التي لا يحدث فيها تغير كبير، وهكذا فإنه في معظم الأحيان يعد المرور الخطي للزمن تقديرا تقريبا مقبولا لمروره الفعلي، لكن هذه ليست طبيعة الزمن.

ما أهمية هذا الأمر؟ لا أهمية له إذا كنا نمر بحقب خالية من الأحداث، لكنه بالغ الأهمية عندما تجد نفسك في نقطة انقلاب المنحنی»؛ تلك الفترات التي تتفجر فيها الطبيعة الأسية لمنحنى الزمن إما نحو الداخل أو نحو الخارج. يشبه الأمر السقوط في ثقب أسود ( في هذه الحالة يزداد تسارع الزمن أسيا كلما توغل المرء نحو الداخل).

سرعة الزمن لكن تمهل لحظة، كيف نستطيع القول بأن الزمن يغير «سرعته»؟ نستطيع أن نتحدث عن معدل عملية ما من حيث سرعة تقدمها في الثانية، لكن هل يمكننا القول بأن الزمن يغير معدله؟ هل يمكن أن يتحرك الزمن بسرعة ثانيتين في الثانية على سبيل المثال؟

هذا بالضبط ما قاله أينشتاين؛ فالزمن نسبي بالنسبة إلى الكائنات التي تعايش أحداثه، فقد تكون ثانية لدى رجل أربعين سنة لدى امرأة. ويضرب أينشتاين مثالا لرجل يسافر بسرعة تقترب جدا من سرعة الضوء إلى أحد النجوم الذي يقع مثلا على بعد عشرين سنة ضوئية. من منظورنا الأرضي، تستغرق الرحلة ما يزيد قليلا عن عشرين سنة في رحلتي الذهاب والعودة كل على حدة، وعندما يعود الرجل، تكون زوجته قد تقدم بها

العمر أربعين عاما، غير أنه يشعر بأن الرحلة بالنسبة إليه كانت وجيزة، فلو أنه يسافر بسرعة تقترب من سرعة الضوء، فقد لا تستغرق الرحلة إلا ثانية أو أقل (من منظور عملي سيكون علينا أن نضع في اعتبارنا بعض القيود، مثل زمن التسارع والتباطؤ دون أن ينسحق جسده)، فأي الزمنين صحيح؟ يقول أينشتاين إن كليهما صحيح، وإن وجودهما نسبي فقط.

لا تعيش بعض أنواع الطيور إلا بضع سنوات فقط، وإذا راقبت حركاتها السريعة، فسيبدو لك أنها تشعر بمرور الزمن بمقياس مختلف، ونحن نمر بمثل ذلك في حياتنا، فسرعة تغير الطفل الصغير وشعوره بالزمن يختلفان عنهما لدى الشخص البالغ، ويسترعي انتباهنا على وجه الخصوص أن تسارع مرور الزمن في التطور يتحرك في اتجاه مختلف عن اتجاه الكون الذي نشأ عنه التطور.

إن من طبيعة النمو الأسي أن الأحداث تتطور ببطء شديد وتستغرق فترات زمنية بالغة الطول، لكن عندما نعبر نقطة انقلاب المنحنی، تندفع الأحداث بسرعة هائلة، وهذا ما سوف نشعر به عندما نلج إلى القرن الحادي والعشرين.

سنعود إلى نقطة انقلاب المنحني، لكن لنتعمق أكثر في الطبيعة الأسية للزمن. وضعت في القرن التاسع عشر مجموعة من المبادئ الموحدة أطلق عليها قوانين الديناميكا الحرارية، وكما يتضح من الاسم فهي تتناول الطبيعة الديناميكية للحرارة، وكانت هذه القوانين أول تطوير رئيسي لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية التي أحكمها إسحاق نيوتن Isaac Newton قبل ذلك بقرن، وفي حين أن نیوتن كان يصف عالما بإتقان آلية الساعة تخضع فيه الجسيمات والأجسام المادية بكل الأحجام لأنماط شديدة الانضباط نستطيع التنبؤ بها، فإن قانوني الديناميكا الحرارية يصفان عالما يتسم بالتشوش chaos، وهذه بالفعل هي طبيعة الحرارة، فالحرارة هي الحركة العشوائية التي لا يمكن التنبؤ بها للجسيمات التي يتألف منها العالم، وإحدى النتائج المباشرة للقانون الثاني للديناميكا الحرارية أنه في نظام مغلق (كيانات وقوي تتفاعل دون أن تتعرض لتأثير خارجي، مثل الكون على سبيل المثال) تزداد الفوضى disorder (ويطلق عليها اسم «الإنتروبيا»)، وهكذا فإن نظاما مثل عالمنا إذا ترك وشأنه فإنه يصبح أكثر تشوشا. يرى كثير من الناس أن ذلك يصف حياتهم وصفا جيدا. لكن في القرن التاسع عشر اعتبرت قوانين الديناميكا الحرارية اكتشافا مزعجا، وفي بداية القرن كانت المبادئ الأساسية التي تحكم العالم تبدو مفهومة وخاضعة لنظام، وكانت تنقصها بضعة تفاصيل، لكن الصورة الرئيسية كانت تحت السيطرة، وكانت الديناميكا الحرارية هي أول تناقض مع هذه الصورة المرضية، ولن تكون التناقض الأخير.

قد يبدو أن القانون الثاني للديناميكا الحرارية – والذي يطلق عليه أحيانا قانون زيادة الإنتروبيا – يقتضي ضمنا أن الظهور التلقائي للحياة الذكية مستحيل، فالسلوك الذكي هو نقيض السلوك العشوائي، ويحتاج أي نظام قادر على الاستجابات الذكية لبيئته إلى أن يكون بالغ التنظيم. تتألف كيمياء الحياة – ولاسيما كيمياء الحياة العاقلة – من تصميمات معقدة للغاية، ومن الحركة الدرامية شديدة العشوائية للجسيمات والطاقة في العالم، ظهرت بطريقة ما تصمیمات رائعة. كيف نوفق بين ظهور الحياة العاقلة وقانون زيادة الإنتروبيا؟

هناك إجابتان لهذا السؤال الأولى: في الوقت الذي يبدو فيه أن قانون زيادة الإنتروبيا يتناقض مع جوهر التطور الذي يسير في اتجاه نظام محكم، فليس هناك تناقض بين طبيعتي الظاهرتين، إذ إن نظام الحياة يقوم وسط تشوش كبير، ولا يؤثر وجود أشكال الحياة بصورة ملحوظة على مستوى الإنتروبيا في النظام الأكبر الذي نشأت فيه الحياة، ولا يعتبر الكائن الحي نظاما مغلقا، فهو جزء من نظام أكبر نطلق عليه البيئة، التي تظل عالية من حيث مستوى الإنتروبيا، وبمعنى آخر فإن النظام الذي يمثله وجود أشكال الحياة لا قيمة له بالنسبة إلى المستوى الكلي للإنتروبيا.

ومن ثم، ففي حين يزيد الشواش في الكون، فمن الممكن لعمليات التطور التي تخلق نماذج شديدة التعقيد والتنظيم أن توجد في الوقت نفسه، فالتطور عملية، لكنه ليس نظاما مغلقا، وهو خاضع للتأثير الخارجي، بل إنه يستغل التشوش المحيط به، لذلك فإن قانون زيادة الإنتروبيا لا يتعارض مع ظهور الحياة والذكاء

وقبل أن نذكر الإجابة الثانية، نحتاج إلى إلقاء نظرة عن كثب على التطور، فهو المبتكر الأصلي للحياة العاقلة.

التسارع الأسي لمعدل التطور تكون كوكب الأرض – كما تعلم – بعد مليارات السنوات، وبفعل طاقة الشمس تكونت من العناصر جزيئات أكثر وأكثر تعقيدا، ومن الفيزياء ولدت الكيمياء

وبعد ملياري عام بدأت الحياة، أي أن «أشكال المادة والطاقة القادرة على البقاء والاستمرار استطاعت البقاء والاستمرار»، والغريب أن أحدا لم ينتبه لهذه الحقيقة المنطقية إلا منذ قرنين.

وبمرور الزمن أصبحت الأشكال أكثر تعقيدا من مجرد سلاسل من الجزيئات، وانتظمت مجموعات الجزيئات التي تشترك في وظائف معينة على هيئة تجمعات صغيرة من الجزيئات، ومن الكيمياء ولد علم الأحياء

هكذا ظهر أول الكائنات الأرضية: أوليات النواة اللاهوائية (كائنات وحيدة الخلية لا تحتاج إلى الأكسجين لها وسائل بدائية للمحافظة على بقاء تصميمها الخاص، وتضمنت الابتكارات الأولى التي جاءت بعد ذلك نظاما وراثيا بسيطا، والقدرة على السباحة، والتمثيل الضوئي الذي مهد لظهور کائنات متقدمة تتنفس الأكسجين، وكان التطور الأكثر أهمية في الملياري عام التاليين هو الوراثة القائمة على الحمض النووي DNA، وهي التي ستوجه وتسجل من الآن فصاعدا تقدم عملية التطور.

واحد من المتطلبات الأساسية لأي عملية تطورية هو سجل «مکتوب» للإنجازات، وإلا فإن هذه العملية ستظل تكرر البحث عن حلول لمشكلات جرى حلها بالفعل، وفي الكائنات الحية الأولى كان السجل مكتوبا (مجسدا في أجسامها؛ مشفرا مباشرة في التركيب الكيميائي لعضياتها الخلوية البدائية، ومع ابتكار الوراثة القائمة على الدي إن إيه، صمم التطور كمبيوترا رقميا لتسجيل إنجازاته، وأتاح هذا التصميم الفرصة لتجارب أكثر تعقيدا، وانتظمت مجموعات الجزيئات التي أطلق عليها اسم الخلايا على هيئة مجموعات من الخلايا مع ظهور أول النباتات والحيوانات عديدة الخلايا منذ نحو ۷۰۰ مليون سنة، وخلال المائة وثلاثين مليون سنة التالية وضعت التصميمات الأساسية لأجسام الحيوانات الحديثة، بما في ذلك الهيكل القائم على الحبل الشوكي الذي أتاح للأنواع الأولى من الأسماك أسلوب سباحة فقال.

وهكذا بينما استغرق التطور مليارات السنوات التصميم أولى الخلايا البدائية، بدأت تقع الأحداث البارزة في مئات الملايين من السنوات، وهو تسارع واضح في معدل التغير. وعندما قضت كارثة ما على الديناصورات منذ 65 مليون سنة، ورثت الثدييات الأرض (مع أن الحشرات قد تعترض على ذلك). ومع ظهور الرئيسيات، أصبح التقدم يقاس بعشرات الملايين من السنوات فقط. وظهرت أشباه الإنسان منذ 15 مليون سنة، وتميزت بالسير على أرجلها الخلفية، وها هو معدل التطور يصل إلى ملايين السنوات

مع كبر حجم المخ – لاسيما في منطقة قشرة المخ كثيرة التلافيف والمسئولة عن التفكير المنطقي – ظهر نوعناء الإنسان العاقل Homo sapiens، ربما منذ 500 ألف سنة. ولا يختلف الإنسان كثيرا عن غيره من الرئيسيات الراقية فيما يتعلق بميراثها الجيني، و۹۸٫6 بالمائة من دي إن إيه الإنسان المعاصر هو نفسه لدى غوريلا الأرض المنخفضة، و ۹۷٫۸ بالمائة لدى إنسان الغابة. وقصة التطور منذ ذلك الحين حتى الآن تركز على نوع من التطور يسيطر عليه الإنسان، ألا وهو التكنولوجيا.

تتطور التكنولوجيا مع سرعة التطور التي تتزايد بمعدل أسي، ومع أن الإنسان العاقل ليس الحيوان الوحيد الذي يستخدم الأدوات، فهو يتميز بابتكاره للتكنولوجيا، وتتجاوز التكنولوجيا مجرد صناعة الأدوات واستخدامها، فهي تتضمن سجلا لصنع الأدوات وتطورا في تعقيدها، وتتطلب إبداعا، وهي في ذاتها استمرار للتطور بوسائل أخرى. و«الشفرة الوراثية» لعملية تطور التكنولوجيا هي السجل الذي حافظ عليه الجنس البشري صانع الأدوات، ومثلما كانت الشفرة الوراثية لأشكال الحياة المبكرة هي ببساطة التركيب الكيميائي للكائنات نفسها، فإن السجل المكتوب للأدوات المبكرة هو الأدوات نفسها، وفيما بعد تطورت «جينات» التطور التكنولوجي إلى سجلات باستخدام اللغة المكتوبة، وكثيرا ما يجري تخزينها حاليا في قواعد بيانات. وفي النهاية سوف تخلق التكنولوجيا نفسها تكنولوجيا جديدة، لكننا نستبق بذلك الأحداث.

تستغرق أحداث قصتنا الآن عشرات الآلاف من السنوات. كان هناك العديد من تحت الأنواع للإنسان العاقل، فقد ظهر إنسان نياندرتال Hormo sapiens neanderthalensis منذ نحو 100 ألف سنة في أوروبا والشرق الأوسط ثم اختفي بصورة غامضة منذ نحو ۳۰ إلى 40 ألف سنة. ورغم صورتهم الوحشية، فإن النياندرتاليين أنشأوا ثقافة معقدة تضمنت شعائر جنائزية معقدة مثل دفن الحلي والأزهار مع موتاهم. لسنا متأكدين تماما مما حدث لأبناء عمومتنا من سلالة إنسان نياندرتال، لكنهم فيما يبدو دخلوا في صراعات مع أسلافنا المباشرين من سلالة Homo sapiens sapiens الذي ظهر منذ نحو 90 ألف سنة. بدأت كثير من الأنواع وتحت الأنواع الشبيهة بالبشر في ابتكار التكنولوجيا، ولم يبق إلا أكثر هذه الأنواع الفرعية ذكاء وعدوانية، وقد رسخ هذا نموذجا سيعيد نفسه في التاريخ البشري، وهو أن الجماعات الأكثر تطورا من الناحية التكنولوجية هي التي تفوز بالسيطرة، وهو أمر لا يبشر بخير في المستقبل، فالآلات الذكية سوف تتفوق علينا في القرن الحادي والعشرين من حيث الذكاء والتعقيد التكنولوجيا

هكذا لم يبق إلا تحت النوع Homo sapiens sapiens وحده من بين بقية الأنواع البشرية منذ نحو 40 ألف سنة.

وكان أجدادنا قد ورثوا بالفعل من الأنواع وتحت الأنواع البشرية السابقة ابتكارات مثل تسجيل الأحداث على جدران الكهوف، وفن التصوير، والموسيقى، والرقص، والدین، واللغة المتطورة، والنار، والأسلحة. ولعشرات الآلاف من السنوات، كان البشر يشكلون الأدوات بشحذ جانب واحد من الحجارة، واستغرق نوعنا عشرات الآلاف من السنوات الاكتشاف أنه بشحذ الجانبين ما يوفر الطرف الحاد الناتج أداة أكثر نفعا بكثير، ومع ذلك فإن أحد الجوانب المهمة هو أن هذه الابتكارات ظهرت وظلت موجودة، ولم تظهر هذه القدرة لدى أي حيوان مستخدم للأدوات على وجه الأرض؛ القدرة على ابتكار الأدوات والمحافظة عليها.

والجانب الآخر المهم أن هذه التكنولوجيا عملية متسارعة بطبيعتها، شأنها شأن تطور أشكال الحياة الذي أوجدها، واستغرقت أساسات التكنولوجيا – مثل صنع حافة حادة من الحجر – حقا حتى تصل إلى حد الكمال، مع أنه بالنسبة للتكنولوجيا التي أبدعها الإنسان تعني الحقب آلاف السنوات بدلا من مليارات السنوات التي استغرقها تطور أشكال الحياة لكي يبدأ.

ومثل تطور أشكال الحياة، تسارع معدل تطور التكنولوجيا إلى حد بعيد مع مرور الزمن، فالتقدم التكنولوجي في القرن التاسع عشر على سبيل المثال فاق إلى حد بعيد التقدم الذي أحرز في القرون المبكرة، مع إنشاء القنوات والسفن الهائلة، وظهور الطرق المرصوفة، وانتشار السكك الحديدية، واختراع البرق، والتصوير الفوتوغرافي، والدراجة الهوائية، وماكينة الخياطة، والآلة الكاتبة، والهاتف، والفونوغراف، والأفلام السينمائية، والسيارة، وبالطبع مصباح توماس إديسون الكهربائي، ويماثل التطور الأسي المستمر للتكنولوجيا في العقدين الأولين من القرن العشرين التطور الذي حدث في القرن التاسع عشر بأكمله. والآن تحدث لدينا تغيرات أكبر في زمن لا يتجاوز بضع سنوات. وكأحد الأمثلة الكثيرة، لم يكن التطور الأخير في الاتصالات – بظهور الشبكة العنكبوتية العالمية World Wide Web – موجودا منذ بضع سنوات.

أضف تعليق