من الطبيعي أن الذين يجعلون التاريخ مجرد نزوات أشخاص، وأحداث عارضة تحكمها الصدفة المحضة، ينتهون بألا يقيموا تفسيرا للتاريخ، وهؤلاء منطقيون مع أنفسهم، ولهذا لن تخصص لهم مناقشة منفردة فكيف نناقش من يرى التاريخ «حكاية حمقاء يرويها مجنون في ليلة عاصفة». وإنما سنناقش الفريق الثاني الذي يرفض أن يحدث أي شيء في التاريخ عرضة أو أن النزوات والأهواء يمكن أن تغير كل شيء في التاريخ، وقد يكون في رأيهم بعض الصواب لو لم ينتهوا إلى أن يجعلوا من التاريخ إما مجرد تاریخ طبیعي – بيولوجي – ، أو مجرد مسرحية معدة مسبقا تمثلها أجيال البشرية، إن خطيئة هؤلاء جميعا القاتلة ليست في تأكيد أن ألا شيء يحدث عبثة في التاريخ، ولكن في أننا عبثا نبحث عن الإنسان في نظمهم التفسيرية فلا نجد له أثرة.
ولعل أشهر هؤلاء المفكر العربي ابن خلدون 1332 ه – 1406 م، إلا أن تفسير ابن خلدون للتاريخ يحتاج إلى تفسير:
فالفترة التي عاش فيها أبن خلدون قد شهدت صراعات اجتماعية وسياسية متعددة كما شهدت ما ترتب على الحروب الصليبية التي أشعلها الصراع الديني القومي وما تلاها من صراعات حضارية اشتدت حدة بين المجتمع العربي الإسلامي والمجتمعات الأخرى، كما تفاقمت الصراعات السياسية والاجتماعية في المجتمع العربي الإسلامي نفسه، وقويت شوكة النعرات القبلية بين العرب، وأطلت الشعوبية أو الانتماء القومي عند المسلمين من غير العرب، وضعفت الرابطة الدينية التي صهرت زمنا طويلا في بوتقة واحدة، شعوبة من قوميات مختلفة، الأمر الذي ترتب عليه ظهور دويلات صغيرة متقاتلة فيما بينها من أجل النفوذ والسلطة، ومفتقرة في أحيان كثيرة إلى مقومات التماسك الاجتماعي والسياسي، بل إن بعض أصحاب الدويلات لم يجد حرجا في التعاون مع الفرنجة
من أجل الحفاظ على «عرشه».
كما أن الوضع الاقتصادي لم يكن في حالة أفضل من الوضع السياسي الاجتماعي، فبعد ضياع الأندلس، وفقدان الموانيء التجارية في البحر الأبيض المتوسط، وسيطرة الفرنجة على معظم طرق التجارة العربية، وحالة البذخ والتبذير التي غرق فيها السلاطين الأقزام.
كل هذا أدى إلى إنهاك الموارد الاقتصادية وانتشر الفقر خاصة مع فقدان الأمن الداخلي واضطرار السلاطين في حروبهم لتموين جيوشهم إلى مصادرة أرزاق الناس. لقد كان عصر ابن خلدون عصر اضمحلال الحضارة العربية، ولم يكن ابن خلدون في هذا كله متفرجا أو بعيدة عن الأحداث. بل كان في قلب الأحداث، أو بحكم ثقافته، وثانيا بحكم الوظائف التي تقلدها، فقد تولى وظائف رسمية فترة 25 سنة، كما سجن وعان تقلب أمزجة الحكام، وشاهد عن قرب حين قضی عامين في الأندلس غروب شمس الإسلام عنها. وكانت له اتصالات عدة بكبار الشخصيات التي كانت وراء الأحداث آنذاك وتنقل في الوطن العربي والإسلامي، متحقق من حالة الانهيار والفوضى في مواجهة أطماع الفرنجة دون أن يتراءى له بصيص أمل في خروج العرب والمسلمين عامة من دوامة الانهيار الشامل، فكان من الطبيعي والحالة هذه، أن ينتهي ابن خلدون إلى الإيمان بأن حكم القدر» قد صدر، وأن الحضارة التي أنارت العالم فترة قرون طويلة قد آن أجلها، وليس هناك ما يمكن عمله فالأجل لا يؤجل.
ولم يكن ما فعله ابن خلدون في مقدمته، فيما يتعلق بتفسير التاريخ خاصة، إلا وضع هذا الحكم بالموت الصادر في لغة تفسيرية، وبالرغم من محاولته تفسير لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد، إلا أن العثور على السبب لن يغير من النتيجة، فالأمر متعلق بالماضي وستظل تفسيرية المسألة شائكة: هل فهم الماضي واستخلاص نتائج منه تكون قابلة للتطبيق على المستقبل؟.
العصبية وانحلالها :
عندما تأمل ابن خلدون فيما يحدث أمام عينيه وأدرك ما آل إليه حال العرب، وحين تأمل ایام مجدهم وعزتهم متفحصة ، أدرك أن ثمة عام قد طرأ عليه التغيير، إنه عامل العصبية، فالوحدة صارت تشتت والالتحام صار تفرقة ، فانتهى إلى أن الدولة إنما تقوم وتقوى على أساس العصبية وليس على أساس ديني فحسب، فالعصبية هي قوة محركة للواقع التاريخي في كافة مراحل التطور الاجتماعي ، وهي مصدر الترابط، ومنها تستمد قوة الفعل والحركة وأن الانحلال الذي أصاب الدولة العربية مصدره التفكك والوهن الذي أصاب عصبيتهم، وعلى هذا الأساس انتهى ابن خلدون إلى الخلاصة التالية : إن الدولة تقوم حين تتوفر عصبية قوية تكون للدولة كالإطار الذي يمنع تشتت مكوناتها أو كالنواة التي تدور حولها الذرات فتمنع تبددها، وتنهار الدولة حين تنحل العصبية، أو حين تفقد النواة القدرة على جذب الذرات حولها فتتشتت.
ومن هذا الملخص الموجز، ومراجعة المقدمة يمكننا استخلاص النقاط التالية :
- إن قوة العصبية مطلوبة في الفئة الحاكمة، فكلما كانت عصبية هؤلاء قوية كانت الدولة التي يحكمونها قوية فإذا ضعفت عصبيتهم وتناحروا ذهبت ريحهم.
- إن قوة العصبية ليست مطلوبة عند المحكومين بل إن قوة العصبية الحاكمة تفترض ضعف عصبية مكونات الدولة ، فإذا حدث أن وجدت عصبيات قوية أخرى غير الفئة الحاكمة فإن ذلك يؤدي إما إلى التوالي على السلطة إثر حروب أهلية، وإما إلى استحالة تكوين دولة أصلا، إذا وجدت أكثر من نواة ذوات قوة جذب متعادلة أدى ذلك إلى توزيع الذرات كل يدور حول نواة . ولهذا حين يتحدث ابن خلدون عن أثر العصبية في قيام الدولة فإنه إنما يعني قوة عصبية الفئة الحاكمة وقدرتها على الاستحواذ على كل العصبيات داخل الدولة .
- لقد ميز ابن خلدون المراحل التي تمر بها الدولة متخذأ معیارة في تمييز المراحل قوة العصبية أو ضعفها وقد لاحظ . وهذا هو القانون الحتمي الذي جاء به – إنها تبدأ قوية، أفرادها متلاحمون يؤثر كل منهم أفراد عصبيته على نفسه، يطبعون زعيم عصبيتهم طاعة عمياء، ثم تسير نحو الانهيار حين يبدأ كل منهم يؤثر نفسه على عصبيته، وينشغل بمصالحه دون اعتبار المصالح عصبيته، ويتحول الالتحام والطاعة إلى دسائس ومؤامرات وأحيانا اتصال بعصبيات أخرى التأمين مصالحه وربما مجرد حياته . وهذه الصورة وفقأ لابن خلدون لا يمكن إيقافها ولا تأجيلها، مما يضفي على تفسیر ابن خلدون للتاريخ طابعة حتمية قدرية كئيبة كأبة الأيام التي عاشها ومن قوة العصبية إلى ضعفها تنتقل الدولة من طور إلى طور.
أولا : طور البداوة 😐
تربط أفراد البدو رابطة العصبية في أقوى صورها، حيث نصرة ذوي الأرحام والأقارب، وما يترتب عليها من تعاضد وتناصر، وكلما كانت القرابة بين أفراد البدو أكثر نقاوة وأصالة كانت العصبية فيهم أقوى وبالتالي كانت الرئاسة لهم على غيرهم من سائر البطون والقبائل التي تختلط فيها الأنساب، وتحتفظ القبيلة بالسلطة ما احتفظت بعصبيتها قوية .
ثانيا : طور التحضر وتأسيس الدولة:
إن صادف هذه العصبية القوية الصاعدة مجاورتها لدولة في دور هرمها، انتزعت الأمر منها وصار الملك لها، ولكن هنا يضيف ابن خلدون عاملا مساعدا لقوة العصبية، إذ يبدون أن العصبية قادرة على تأسيس دولة لكنها ليست قادرة على الاحتفاظ بها، فلا يؤهل القبيلة بالفتح والتغلب على الأمصار شيء كالاستناد إلى مبدأ ديني أو سياسي ) إذ يدفعهم الإيمان بالدين أو بالمذهب إلى التكاتف ويزيل الاختلاف، ويجعل العصبيات الأقل قوة تقبل بسهولة سلطة العصبية الأقوى وقيادتها.
ثالثا : طور التدهور :
إن عوامل تحضر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها، ذلك أن الحضارة، كما يذهب ابن خلدون، وإن كانت غاية العمران فهي في الوقت نفسه مؤذنة بانهيار الدولة . إلا أن ابن خلدون حين يفصل في هذا الموضوع فإنه يتضح أن قصده الصراع السياسي على السلطة وليست الحضارة في حد ذاتها، فهو حين يذكر عوامل سقوط الدولة يذهب إلى أن العصبية التي تتم بها الرئاسة والملك تبدأ في الانحلال
السببين:
ا – إن صاحب الرئاسة يطلب الانفراد بالملك وبالمجد ويأنف أن يشاركه أهل عصبيته الذين وصل الرئاسة على أكتافهم وبسيوفهم، فيدفعهم عن ملکه ويأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة حتى يصبحوا بعض أعدائه . ب- وإن كان صاحب الملك بدافع الأجانب بعصبيته حين إقامة الملك، فإنه وإن أصبح الملك له صار يدافع الأقارب من أهل عصبيته مستعينا عليهم بالأباعد فيركب صعبا من الأمرا)، وليس من المستبعد أيضا أن يمتلك بعض نفوس عصبيته الحسد لما فاز به من ملك ونعمة فيأتون أمورة تجعله يزداد نفورة وخوفا على ملکه من عصبيته أكثر مما يخاف عليه الأباعد، فيصبح هؤلاء الأباعد صنائعه مصدر ضعف الدولة . وما هو جدير بالملاحظة أيضا أن العصبية وإن كانت مصدر وحدة وقوة داخل القبيلة إلا أنها مصدر ضعف في علاقات القبائل حيث تصبح العصبية مصدر نزاع وشقاق، وبالتالي فإن قبيلة من القبائل لا تتم لها الرئاسة ولا تكون دولة بسبب العصبية فقط وإنما بسبب ديني أو سیاسي يخفي حكم العصبية ويحصل على أساسه الاعتراف بالرئاسة وتكوين دولة .
إن هذه الدورة التاريخية حتمية الحدوث بالنسبة لابن خلدون ولهذا فإن مفهومه للتاريخ تظهر فيه القدرية Fatalisme بكل وضوح: إن عمر الدول كعمر الإنسان : طفولة ، شباب، شيخوخة، فكما لا يمكن جعل الطفل شابا قبل الأوان ولا الشاب کھلا لا يمكن جعل الكهل شابة . إن هذا القانون البيولوجي الصارم إلى جانب اشاراته الواضحة إلى أهمية العامل الاقتصادي جعلت انجلز يشيد به كأحد العلماء الذين حظوا باهتمام وتقدير خاص من مارکس بل إن ماركس في بعض النواحي يبدو أمام ابن خلدون تلميذة.
إن التطور الاجتماعي يكرر نفسه بشكل دوري، تزول أنظمة وتظهر أخرى على أنقاضها، ولهذا فإن مفهوم التغيير يفقد طبيعته الحركية ويصبح سکونية منحصرة في إطار تعاقبي لمرحلة البداوة والحضارة والتدهور، فلقد جهل ابن خلدون التغيير الثوري الذي يقوم برفض المراحل، کہا جهل الحركات القومية وربما عن عمد فقد كانت هذه تسمى شعوبية محتقرة في قاموس ثقافة ذلك العصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل العصبية حين تتفكك من الممكن أن تعود إلى التماسك من جديد؟ أم أنها تنتهي ولا تقوم لها قائمة ويقتضي الأمر ظهور عصبية جديدة؟.
إن ما يعيب ابن خلدون في نظري أنه نظر إلى العصبية في أضيق نطاق إذ حصرها في العلاقة القبلية وأهمل بالتالي الانتهاء القومي وما يصدر عنه من حركات لتحقيق الذات للجماعة المغلوبة – أو المظلومة من طرف جماعة أخرى (1) جاعلا عامل قيام الدول وسقوطها في الفئة الحاكمة فقط وقوة أو ضعف عصبيتها.
إن هناك مجهولا لم يشر إليه ابن خلدون، رغم أنه أشار إلى عامل العصبية والعامل الاقتصادي والترف» والعامل العقائدي. لكن هذه العوامل تظل بدون العامل المجهول من ابن خلدون ثانويات وليس أساسيات، فالترف مثلا لا يمكن اعتباره من عوامل سقوط الدولة لأن الترف آنذاك لم يكن إلا من نصيب حفنة من الناس لا يمكن الادعاء بأن الدولة تقوم على أكتافهم، بل ربما على العكس إن حرمان الأغلبية وترف القلة هو الذي يؤدي إلى الشقاق داخل الدولة وضعف العامل الديني والسياسي الذي كان يوحدها، ولكن ابن خلدون جريأ على عادة عصره لم ينظر إلى الأغلبية إلا كقطع حجارة تبنى بها الدول أو تهدم.